الكلمات الضائعة

مدونة بقلم أسامة السلمان

قصة قصيرة: الساحر العجوز

كان في قريتنا ساحر عظيم يدنوه كل صغير وكبير، خفيف اليد واسع الحيلة، يرتدي قبعة طويلة غالبًا ما كان يخبأ بها العجائب، فحينًا يخرج منها عصاة يستحال أن تسعها طولًا، وحينًا يخرج منها حمامة ناصعة البياض ترفرف سعيدة بحريتها، ولكن ما يندر أن يخرج منها كان قطعة حلوى يكنزها الطفل المحظوظ الذي يرميها الساحر له، ولم يكن سحر قطعة الحلوى تلك في طعمها أو حجمها بل كان في خروجها من تلك القبعة السحرية التي أصبحت في خيال كل طفل عالم يمكن أن تجد فيه كل مايحلو لك، بل وربما ظن أن قطعة الحلوى هي مفتاح لتلك العالم، وأنا أتكلم كثيرًا عن قطعة الحلوى تلك لأني في يوم من الأيام وفي أحد عروضه كنت ذاك الطفل المحظوظ الذي ينال مفتاح الأرض السحرية تلك.


مرت السنوات وكبرت ولكني لم أجرؤ أن أفتح قطعة الحلوى، فقد أبيت أن أسلبها سحرها، لذا أبقيتها في صندوق كنت أجمع فيه ما استطعت شراءه من ألعاب الخفة (والذي بحق لم يكن كثيرًا). ولم أكن أنا الوجيد الذي كبرت، فقد كبر العالم والمسرح والساحر ولم يعد له ذكرى بعد الآن، فقد أتى ساحر جديد بألعاب أشد سحرًا وأعظم أثرًا، يسحر بسحره العقول قبل الأعين، ولأكون صريحًا كنت أشاهده بين الحينة والأخرى وأستمتع به أنا وأطفالي الصغار ... نعم أطفالي الصغار، يبدو أنني نسيت أن أحدثكم عنهم، فعندما كبرت تزوجت امرأة كانت ساحرة أيضًا ولكن سحرها نوع آخر يسحر القلب وحده، فيبقى متعطشًا له، يريده، يريد رؤيته، و يريد البقاء بجانبه، ولم يكن مسرح حبنا الذي سحرت فيه خاليًا من المشاهدين، بل قد رزقني الله فتى وفتاة يشاهدوننا ونشاهدهم ينمون في رعاية الله.


آه ... أعذروني مجددًا فقد استطردت في الحديث عن نفسي، أنا هنا لأحكيكم حكاية الساحر العجوز وليس لأن أضيق بكم ذرعًا بسماع أخباري ... فكما أخبرتكم أنني كنت أشاهد ذلك الساحر الجديد، ولكن روحي اشتاقت لمشاهدة الساحر القديم، فقد كان ذا لمسة يفتقر إليها هذا الجديد، لا أدري أهي حقًا فيه، أم أني اخترعتها لأنه كان جزءًا من طفولتي؟ الله وحده أعلم.

أيًا كان سبب شوقي له، فقد ساقني ذلك الشوق لأبحث عنه، وكم كانت رحلة البحث طويلة، فقد سألت هنا وهناك، وجبت مسارح السحر كلها، إلا أن بحثي قد قادني في النهاية إلى قرية في أكناف قريتنا مسيرتها مسيرة ساعة أو اثنان.


أتيت القرية وصورة ساحر طفولتي تحفزني وتسهل مسيري، سألت عنه فأرشدوني إلى مزرعة في طرف تلك القرية، وكان من غريب وصف السكان أنهم عندما سألتهم عنه، كانوا يردون علي قائلين: "تقصد لاعب الخفة العجوز؟" ... وكان استغرابي أني لا أذكره عجوزًا ... آه ... لا بد أنه كبر كما كبرت وأضحى له لحية عظيمة بيضاء تزيد مظهره هيبة وتزيد سحره حكمة.


وصلت المزرعة تلك ووجدت فيها شجرة كان يتكأ لها شخص يظهر على رأسه تلك القبعة المميزة، عرفت أنه هو فلا أحد يرتدي تلك القبعة كما يرتديها هو، أسرعت خطوي لأرى ساحر طفولتي ... ولمفاجأتي لم أجده ... أو بالأحرى لم أجد ذاكرتي فيه، بل وجدت عجوزًا رثًا بثياب مقطعة يظهرعليها أثر البلاء والشقاء ... تحسست قطعة الحلوى في جيبي لا لأتأكد أني أحضرتها بل لأتعافى من الصدمة أو ربما أستدرك ذكرى ساحر طفولتي ... قلت بعد أن أدركت عيناه ناظري والحروف تخرج مني بصعوبة من الدهشة: "سلام الله عليك ياعم ... أأنت ذاك الساحر الذي كان يؤدي السحر في قريه القيروان ؟".

تحرك في مقعده ولمعت عينه، ولا بد أن ذلك لأني أشعلت ذكريات جميلة في عقله، ثم قال:

"نعم ... نعم، من السائل؟"

تحسست قطعة الحلوى مرة أخرى وجلست القرفصاء ومن ثم أمسكت يده البالية ووضعت قطعة الحلوى فيها، فصار يقلبها حتى ظهر شبه ابتسامة على وجهه، فباغته بالكلام قائلًا:

"أنا أحد الأطفال الذين كبروا على مشاهدة سحرك ..."

زادت ابتسامته عرضًا حتى نظر إلي قائًلا:

"لا بد أنها بليت ... لم لم تأكلها فبل أن تبلى؟"

هنا بادلته الابتسامه فقد كنت أدرك جيدًا الإجابة: "لأن مبتغاي فيها ليس أكلها، بل سحرها ..."

قهقه حتى ظهرت أسنانه الصفراء ومن ثم قال: "يا ليتني مثل قطعة الحلوى هذه ... فلقد بليت وفقدت سحري أيضًا، ولم يعد لي أحد يشاهدني أو يسمع لي ... "
شعرت بحزنه فحاولت أن ألطف عنه فقلت: "أنا آت لأشاهدك، أرن ماعندك .."

قام حينها بعمل بعض من خدعه القديمة والتي لم تسحرني هذه المرة، فكل هذه الخدع صرت أعرفها وأعرف كيفية آدائها. حزنت لذلك ولم أرد له أن يحزن أيضًا فحاولت أن أجبر الدهشة لتظهر على وجهي.
وبعدما انتهى عرضه شكرته وقلت له: "ياعم خدع جميلة، ولكنها هي ذاتها التي شاهدتها وأنا طفل …  لم لا تتعلم خدعًا جديدة؟".
اكفهر وجهه وقال شبه غاضب : "إنها ليست الخدع ذاتها بل الساحر الذي يسحر، أنا أتميز بطريقتي .."
"ولكن ياعم، ما الطريقة نافعة دون سحر جديد ودهشة مصاحبة؟!"
أكمل تبريرات لا معنى لها مصرًا على أنه لا يحتاج أن يتعلم شيئًا، بل أصر أن يتمسك بطريقته القديمة، فما كان مني غير توديعه والعودة إلى بيتي وأنا أجر ثوب اليأس.

عاش ذلك الساحر سنتين بعد ذلك اللقاء ومن ثم توفاه الله وكنت من النفر القليل الذي صلى عليه.
كان رحمه الله متمسكًا بماض فان، يحاول أن يعيش ذكرياته بلا جدوى، كل ذلك لانه كان يصر على أن يقنع نفسه أنه لا يحتاج لأن يتعلم ويجدد نفسه، وكل ذلك لأن طريقته نجحت حينًا ما، فظن أن النجاح سيظل حليفها ماعاش.
كان رحمه الله يرى في التعلم على كبر نوع من العار، وكأنه ظن في كِبر خفي أنه جمع كل ما في هذه الحياة من درر، فلا داعي له أن يعود ويبحث مجددًا.
كان رحمه الله يرى في الماضي حكمة وفي الحداثة نقمة، فعاش سعيدًا حينًا، وابتأس أحيانًا كثيرة.
كان رحمه الله ساحر طفولتي وكم أسعدني وكم رسم ابتسامة على وجهي ...لكني الآن أبكي في كثير من الليالي عندما يأتيني هاجس يذكرني بأني قد أصير مثله يومًا.

أضف تعليقاً

Loading