الكلمات الضائعة

مدونة بقلم أسامة السلمان

قصة قصيرة: ذوات

كان يجول في عالمه الخاص عندما كان الجميع من حوله يحاول توقع مستقبله، فقد كان الخيال والتجول فيه أكثر راحة له من هذه الاجتماعات العائلية التي سرعان ما يهاجمه روادها بأسئلة عن مستقبله: ماذا سيعمل؟ وأين؟ من ستكون شريكة حياته؟ ومتى الخطبة؟ .. كلها أمور مستقبلية مبنية على صور رسموها لشخصه عندما كان يومًا بينهم، كم يود أن يدركوا أنه كل يوم يصبح ذات جديدة، كمنحوتة تحت الإنشاء، كل يوم يحطم جزءًا منها، ويضيف آخرًا، وليس ذلك فحسب، فحتى الناحت لا يدري كثيرًا عن منحوتته، بل هو كمن يمشي في ضوء البرق، كلما أضاء له مشى فيه، وكلما أظلم عليه قام. كان يستغرب لم لا يسأله أحد عن حاضره؟ لم لا يسألونه ماذا يشعر؟ لم ... أوقف حبل هذه الأفكار أحد الأسئلة المباغتة عن رصيده البنكي، فما كان منه إلا أن يلعب خدعته المعتادة أمسك هاتفه، وضغط أزرار تحكم الصوت بالنمط الذي كان أعده سابقً للهروب من مثل هكذا موقف فما كان من هاتفه إلا الإستجابة لما برمجه لفعله، فرن هاتفه آذنًا له بالهروب. "مكالمة طارئة ... عذرًا"، قالها بينما تسارعت خطواته باتجاه الشرفة. أغلق الباب من ورائه محصنًا نفسه من العالم الخارجي. أخرج علبة السجائر من معطفه الذي أضاع كثيرًا من الوقت في كيه استعدادًا لهذه المناسبة، أشعل سيجارته وأخذ نفسًا عميقًا ... خرجت غيمة من الدخان من فيه، تابعتها عيناه وهي تتلاشى بسرعة من فوقه، ربما كانت تتلاشى بسرعة، ولكنه رأى فيها تشكلًا رسم بسمة صغيرة على وجهه، فقد كانت تبدو كفتى يجري. رن هاتفه، ولكن دون خداع هذه المرة، رأى اسم رفيقه المعتاد، أطفأ السيجارة على الشرفة ورد قائلًا: "أهلا، جمال".
"يارجل، أين أنت؟ أحاول الاتصال بك من أسبوع .. لقد ظننت أن شيئًا حصل لك!"
"لا يا جمال ...  أنا بخير، بخير."
"هل لنا أن نجتمع عندك الليلة؟"
تذكر غرفته الهرئة، والملابس المرماة في كل الأرجاء، مما جعله يسكت قليلًا قبل أن يحاول أن يرد، ولكن صديقه كان عالمًا به:
"لا تحاول أن تتحجج لي بنظافة المنزل، صدقني، فأنا كما تقول زوجتي، ضعيف الملاحظة لدرجة أنها بإمكانها أن تأتي بامرأة مكانها ولن ألاحظ .."
ضحك رغم مزاجه السيء، وقال:
"أعانها الله ياجمال، يالك من غشيم"
"أعانها الله؟! … أعانني الله أنا يارجل … موعدنا الساعة الثامنة إذًا، سأحضر العشاء "
"في أمان الله"

 


كانت ليلة رائعة كما اعتاده الصديقان، شاهدا فلمًا، تحدثا حول أمور سخيفة بجدية، وعن أمور جدية بسخافة، وبينما أنهى جمال ارتشاف قهوته، وقعت عينه على عقارب الساعة المشيرة إلى الثانية مساءً، فقال: "اللعنة، مر الوقت بسرعة، يتوجب علي أن أغادر .. زوجتي في انتظاري .. لم يعد بإمكاني أن أكون حرًا مثلك .."
"على الأقل .. لك أحد تعود له .. أما أنا فغدًا أعود إلى جامعتي في أمريكا .."
"صدقني .. أنت في نعمة لا تدركها يا رجل .. لقد استعجلت في قتل وحدتي، ولم أدرك قيمتها حتى مقتلها .. "
رسم ابتسامة على وجهه، ومن ثم مد يده ليصافح جمال، ولكن ما كان من جمال إلا أن عانقه وقال:
"فقط تذكر لماذا قررت أن تبقي على وحدتك .. تلك الرغبة تكفيك كي تستمر"
"ربما .."

 

 

"الرجاء ربط الأحزمة استعدادًا للإقلاع".
أخرج من حقيبته أوراقًا وقلمًا، وضعهم أمامه، وحاول أن يكمل روايته .. ولكن لم يحدث شيء، حاول أن يستجمع كل أفكاره، ولكن لم يحدث شيء .. ولا حتى كلمة .. وضعها على المنضدة أمامه وقرر أن يقضي سفره في قراءة كتاب "عبقرية عمر".

وعند اقتراب نهاية الرحلة، قامت الطائرة بالاهتزاز فبدأ خوفه المعتاد من الطائرات يخرج إلى السطح:
"ماذا لو كانت هذه النهاية .. تحطم الطائرة .. ليست بنهاية شاعرية .. ".
شاهد الأوراق أمامه .. أمسك القلم ولكن هذه المرة كاد يتفجر من الأفكار، فكل الأفكار والكلمات بدأت تتضح أمامه كخريطة كبيرة، فبدأ يكتب ويكتب .. امتلأت الورقة ، فحركها ليفسح الطريق لأخرى ومن ثم استمر في الكتابة بتركيز لم يقطعه إلا صوت الكابتن: "نعتذر عن الإزعاج، ولكننا واجهنا بعد المطبات الهوائية .. نرجوا منكم البقاء في مقاعدكم حتى تهبط الطائرة"

 


انقضى أسبوع المحاضرات الأول سريعًا. كانت المواضيع مثيرة، والساعات التي يقضيها طويلة .. لم يكن عنده وقت ليفكر بشيء آخر، ولكن ذلك كله تغير عندما أتت نهاية الأسبوع .. كان يعلم أن الفراغ عدوه .. فعندما يهاجمه، لا يأتي وحيدًا بل يأتي بقرينه: الحزن.

نظر من النافذة الكبيرة لغرفته والتي استقر عندها مكتبه الكبير الذي وضعه هنا كي يضمن أشعة الشمس، ولكن هذا لم يتحقق له الآن، فالغيوم الكثيفة السوداء غطت كل أثر للشمس.

أوراقه المبعثرة على المكتب كانت مستعدة لتلقي المزيد من خط حبره، ولكن ساعة كاملة دون أن يخرج منه سوى جملة واحدة.

أخرج سيجارة أخرى من جيبه، وأخذ نفسًا عميقًا .. خرج من فيه غيمة تشبه الغيمة التي رآها على الشرفة .. أخذت الذكرى تتبع الأخرى حتى تذكر حديثه مع جمال:


"فقط تذكر لماذا قررت أن تبقي على وحدتك .. تلك الرغبة تكفيك كي تستمر"


حاول أن يسأل نفسه لم تذكر السبب عندما كان في الطائرة، فصار يكتب فجأة؟

لقد خفت ..أو بالأحرى .. لقد امتلأت بالمشاعر، هكذا قال لنفسه.  أخذ يتذكر كل مرة حاول فيها أن يكتب شيئًا من روايته، لقد كان يكتب حزينًا، سعيدًا، خائفًا، وكيف له أن يكتب دون رصيد من المشاعر يكون حبرًا له، فما الكتابة بالنسبة له سوى عرض لتلك المشاعر على الورق.

قلب في أوراقه حتى وجد أول صفحة، وأخذ يقرأ ماكتبه حتى وصل إلى آخر ما كتبته يداه .. ضحك كثيرًا، فلم يكن ماكتب سوى ما تخيل فعلًا: فما الشخصيات التي يخترعها سوى صدى لذوات كانت يومًا من الأيام ذاته، أو ربما ستكون. وما الأحداث هي أحداث عاشها، أو أحداث تمنى أن يعيشها، أو خاف حدوثها. أخذ نفسًا آخر من سيجارته ونظر إلى الخارج مفكرًا لبرهة .. وعندما اتضح كل شيء، أمسك قلمه وأكمل يكتب في الصفحة التي بدأها وهو يتمتم:


"بينما كانت إيزابيل توشك على أن تقفز إلى الأرض من شرفتها في الدور السابع .. أدركت حينها لم قد تكون ظالمة عندما تنهي حياتها الآن .. ربما سنواتها الثلاثون القاسية ليست كفيلة لها لتحكم على الحياة كلها .. ربما لو قررت أن تتحمل مسؤولية حياتها من هذه اللحظة، لتزينت لها الحياة بفستان آخر .. ربما لو أكثرت من التجارب والعبث دون هدف سوى الاكتشاف والفضول، فهي تعلم جيدًا أن لا شيء جيد يأتي بأن تكون حريصًا على الدوام .. ربما فقط حينها لن تكون الحياة شيئًا معقدًا بالنسبة لها .."

 

اكتفى بهذا القدر من الكتابة، وخرج من مكتبه لكي يعيش ذاتًا جديدة، ومن ثم يعود ليكتب عنها.




 

أضف تعليقاً

Loading