الكلمات الضائعة

مدونة بقلم أسامة السلمان

قصة قصيرة: الحلم الأول

رأيت فيما يرى النائم أني كنت أرقد على أحد التلال في يوم ربيعي، ولم يكن يخالط ناظري إلي السماء سوى عصافير تأتي بين الفينة والأخرى. ولكن ضحكة ناعمة أقعدتني، نظرت تجاهها فوجدت فتاة بشعر ناري اللون، كانت تلوح بيدها مشيرة علي باللحاق بها. لم أدري أكنت ألحقها طوعًا أم كرهًا ولكنني امتلأت بفضول عظيم، أردت أن أرى تفاصيل وجهها، وأعلم سرها.

لم تقف قدماي اللتان اعتدت كسلهما عائقًا في وجهتي، بل انطلقا وكأن الفتاة كانت تدعوهما أيضًا، فتركت الجري لهما، بينما استمتعت قسمات وجهي برياح الربيع الباردة التي شاركتنا هذه الرحلة. تباطأت الفتاة قليلًا فسُمح لي أن أطلع عليها، أدارت وجهها نحوي فأنارت ابتسامتها كل شبر في وجهي. بادلتها الإبتسامة فازدادت سرعتها أكثر واستمرت المطاردة.

تمنيت حينها لو عاونتني الأرض وجعلتني أدركها، ربما تُضيق المسافات كما أضاقها الله يومًا لعبده التائب الذي قتل مئة نفسًا، أو تُطوع رياحها لتدفع الفتاة برقة نحوي، ولكن الأرض كان في جعبتها حيلة أخرى. تمددت الأعشاب خلفها محاولة أن تطال قدماها، ولكنها سرعان ما صارت أكثر خفة، فصارت تتقافز وكأنها تجري على القمر.

أطلقت قبلة في الهواء شاكرًا الأرض رغم فشلها في مساعدتي، فسرعان ما أطلقت ورائي سربًا من الطيور التي حملتني فوقها، تبع ذلك، وبإنسابية لم أعقلها، تراقص الطيور في الهواء على أنغام معزوفة “ضوء القمر”، ورغم أن بيتهوفين لم يكن قريبًا، ولكني كنت أجزم أن الطيور لم تكن سوى عصاه الموسيقية.

لم تساعدها خفتها طويلًا، فلم أكن سوى قاب قوسين أو أدنى منها، حتى رفعت يدها للسماء، فنزل المطر مؤيدًا لها. أثقلت قطرات المطر التي لم أعتد حجمها ظهور طيوري، فتساقطت واحدة تلو الأخرى خاتمة للحن الموسيقي الذي كانت تغنيه.

كان آخر مايسقط من السماء هو جثتي الثقيلة، ولكن صورة الفتاة وهي ترفع يدها للسماء أتت على بصيرتي، فرفعت يداي للسماء مثلها، فأرسلت لي أحد غيومها التي سرعان ما احتضنتني، فشعرت بنعومة لم أتخيل لإنس أن يشعر بها، أردت أن أبقى في الغيمة بقية ما كتب لي الله من العمر، ولكن يبدو أنها سمعت أفكاري، فانتفضت نفضة واحدة، فعانق خدي أعشاب الأرض التي انتظرت وصولي بكل شوق.

فرحت بنجاتي، ولكني سرعان ماحزنت عندما تذكرت أنني فقدت الفتاة. دمعت عيني، فاسودت السماء، صاحبها عزف لأغنية حزينة لا أذكر اسمها، وكان آخر ما أتى علي تلك الليلة هو ظلام دامس أكمل علي مصيبتي. في ظلمة الليل تذكرت كل حزن أصابني يومًا، وكانت قسمات وجهي تتشكل غصبًا وحزنًا مماثلة لكل شعور مظلم أصابني يومًا. عطفت السماء علي فأضاءت لي أحد نجومها، أدرت وجهي حتى لا أراها، فلم أعد أثق بالسماء بعد الآن، ولكنها أنارت لي نجمة أخرى مكان ما التفت، وسرعان ما تلألأت السماء شبرًا شبرًا حتى تلاقى سيل أنوارها في نقطة مظلمة. تساءلت لم بقيت تلك النقطة مظلمة؟ ولكن سؤالي سرعان ما أضبح عديم القيمة عندما ظهر هلال عظيم محل تلك النقطة، أفسحت له النجوم السماء خاشعة، فازداد نورًا على نور. لم أستطع حينها سوى أن أبتسم رغم حزني، ولكن السماء مازلت تحتفظ لي بمفاجأة أخرى في جعبتها.

غالب نور الهلال احمرار غريب ظهر على أحد أطرافه، فكررت النظر حتى ظهرت حقيقته، كانت الفتاة تبتسم لي من خلف الهلال، لم أتساءل وقتها كيف لعيني أن تريني تفاصيل ابتسامتها، فلم يكن ذلك مهمًا حينها. ركبت الفتاة الهلال وكأنها تركب حصانًا، ثم مدت لي يدها كي أصير رديفها، مددت يدي رغم بعدي، فصرت في طرفة عين عندها، نظرت إلي من خلف شعرها الأحمر والإبتسامة مازالت مصاحبة لها، ومن ثم أطلقت سراح هلالها فانطلقنا في عداد السماوات كلها، أمسكت يدها، واختلست قبلة خجولة، فغشاني نور عظيم أيقظني من نومي، وأنهى حلمي.

هذا ياشيخي ما رأيت، فهل أنت للرؤيا عالم؟ سكت الشيخ بينما غشاه خشوع عظيم. نظر في عيني، ومن ثم قال: “هل فعلًا تريد أن تعرف تأويله؟”. 
“إن ما أريده ياشيخي هو أن لا يكون ذلك حلمًا، أفإن كان ذلك ضربًا من الخيال، فياريتني أراه كل ليلة.”
“ولم تسأل عن تأويله إذًا؟”
“إن السبيل الوحيد لأن أعيش الحلم مرة أخرى هي أن أفضي به لمن أحب، ولعل دراسته تفيدني أيضًا.”
“إن ما حلمت به هو الحلم الأول.”
“وما ذاك؟”
“إنه الحلم الذي يولد به كل طفل، إنه السعي الدائم نحو سبب وجودنا.”
“بالله عليك ياشيخي، لا تزد علي هذا الحلم ألغازًا”
ضحك حتى تبع ضحكاته شيء من السعال: “لا عليك .. لا عليك، إني لحلمك عارف. فأما الفتاة فهي الحلم الذي تريد، الحقيقة والغاية التي كنت ومازلت دومًا تلاحقها”
“ولكني لا أسعى لفتاة ياشيخي، إن أريد غير ذلك.”
“ومن قال أنك تسعى لإمرأة؟ إن عقولنا تتخاطب بالرموز، فتجسد لنا أمانينا وأحلامنا بأجمل ما تجد في جعبتها”
“إذا الحلم هو أمثولة؟"
“بإمكانك أن تقول ذلك”
“وماذا تعني الأرض والسماء والطيور والغيوم والأعشاب؟”
“جنود الله التي يرسلها لنا عندما نتصالح مع حقيقتنا، عندما نقرر أن لا شيء في هذه الدنيا أغلى من أحلامنا، حينها يستوي كل اضطراب فينا وفي الكون بأسره، حينها فقط نكون على الدرب الذي رسمه الله لنا.”
“وما الظلام الدامس وأمطار السماء؟”
“أحسب الناس أن بتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون؟ ... تلك امتحانات الله لنا كي لا ينال حلمه إلا من يستحقه فعلًا، ذاك الذي استعد لأن يضحي بكل شيء من أجل ذلك اليوم الموعود، أن يضحي براحة الغيوم لكي يعانق نجوم السماء.”
“وما ذلك الضوء الذي غشاني في آخر الحلم؟”
سكت شيخي هنيهة ثم قال: “ذلك هو اليقين، فعندما يصبح الحلم في متناول اليد وعندما نظن أننا لقينا كل شيء يمكن أن يقتفى، حينها تنتهي هذه الرحلة القصيرة، وتبدأ الرحلة اللانهائية.”

أضف تعليقاً

Loading