وسام البهنسي

مدونة مبرمج معماري

مع العربية

في نظرة تأملية ألقيتها على تاريخ كتاباتي التقنية، استطعتُ ملاحظة تطور خبرة معينة أودّ إفادة قرائي بها، علّها تكون لهم دليلاً وعوناً في كتاباتهم وفكرهم.

 

عندما تكتب في موضوع تقني في علوم الحاسوب فإنك ولا مناص تواجه عدداً من المصطلحات الإنجليزية في صلب موضوعك. مقالاتي التقنية الأولى تميزت بعدد كبير من تلك المصطلحات، وقد كنتُ ألتزم آنذاك بذكر المصطلح الإنجليزي فقط اعتقاداً مني بأن هذه المصطلحات اصطكها إنجليز ولا تجوز ترجمتها وإلا ما أديتُ أصحابها حق احترامهم. النتيجة أن بعض المقالات قد تحولت إلى سَلـَطة من الكلمات العربية والإنجليزية. بل وأحياناً قد تحسب المقالة إنجليزية في الأساس وتتخللها بعض حروف الجر والعطف العربية هنا وهناك.

 

يتقدم بي العُمُر وييسر لي الله المرور بخبرات عديدة كمؤلفات الدكتور أحمد خالد توفيق ورسالات الحسن بن الهيثم، وأتقدم في فهم العلم الذي أعمل به (برمجة الرسوميات)، وأكتشف رويداً رويداً أن اعتقادي السابق في الالتزام بالمصطلح الإنجليزي خاطئ بل ومجحفٌ أيضاً. فأنا في الحقيقة لم أكن أتفكر في معنى ودلالة المصطلح الإنجليزي أساساً كي أستطيع إيجاد مقابله في العربية.

 

لحظة أخذتُ فعل ذلك وجدتُ أن إيجاد المقابل العربي للمصطلح الإنجليزي عملية يسيرة، بل وفي كثير من الأحيان أوفّق بإيجاد مقابل أقرب دلالة للمعنى الحقيقي للتعبير. وفي أحيان أخرى (في علوم الرسوميات حصراً) أجد أن الحسن بن الهيثم قد اصطلح على المعنى ما يناسبه منذ قرون عدة قبل أن أقرأ أنا مقابله بالإنجليزية في يومنا هذا.

 

كمثال، تجد في رسوميات الحاسوب كلمتي radiance وَ irradiance. وبصراحة لم أكُ أعي معنى هاتين الكلمتين إلى أن قرأتُ عنهما في كتابات الحسن بن الهيثم. قبلها كنتُ قد حاولتُ مراراً وتكراراً فهم المعنى من التعريفات والشروحات الإنجليزية، لكن معرفة مقابلها بالعربية استبدل كل الغموض بالفهم والاستيعاب وبكلمة واحدة (لمن يهمه الأمر، بحَثَ الحسن ظاهرتي الإنارة والاستنارة في البصريات، وهما ما يدعى في الإنجليزية بـ radiance وَ irradiance في علوم رسوميات الحاسوب). بالمثل، مصطلح الصــَّــقَال المقابل لما يعرفه الكثير منا فقط باسم specular (المصدر: كتاب المناظر للحسن بن الهيثم).

 

لكننا نسمع في بعض الأحيان من يقول بضعف العربية وجمودها وما إلى ذلك. أعتقد أن هؤلاء معهم حق في اتهام المصطلحات العربية بالجمود، لكن الحقيقة أن المشكلة ليست في اللغة، وإنما في فكر عدد من ممارسيها اليوم (وهي قضية قابلة للإصلاح). كيف لا واللغة العربية في علوم اللغات تصنف كلغة متقدمة تفوق اللغات الأخرى في القدرة على التعبير؟

 

أترككم مع الدكتور فاضل صالح السامرائي في إحدى لقاءاته مع الأستاذ محمد خالد (كلاهما من باحثي اللغة العربية، مع فارق الخبرة طبعاً)، حيث يُطرح موضوع اللغة العربية ومقارنتها مع اللغات الأخرى، راجياً أن أكون قد حفزتك أيها القارئ العزيز على حب لغتك والفخر والاعتزاز بها وامتلاك حصيلة ثقافية تدافع بها ضد ظالميها وتدعمك في دراسة هذه اللغة حق دراستها.

 

حتى لقاءٍ أخر، السلام عليكم ورحمة الله…

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات (3) -

  • مجد مارديني

    15/09/2010 08:47:03 ص | الرد

    شكراً لك على لفت النظر لهذه النقطة.

    كأي كائن حي , كانت كلمات اللغة العربية , تحيا وتموت , مفردات يقل استخدامها أو ينعدم , وأخرى تظهر لضرورات العصر.

    اتّهام اللغة العربية بالقصور برأيي خطأ فادح , وقد وقع في هذا الخطأ الدكتور أحمد خالد توفيق في إحدى رواياته ونال رداً من أحد طلاب الأزهر على هذا , كان رداً قاسياً بعض الشيئ ..

    الكل سمع عن المفردات الغريبة التي أضعنا أغلبها للأسف , على غرار يوجد للأسد 300 اسم وللسيف ما لا يقل عن ذلك وللمطر حسب درجاته حوالي العشر أسماء أو يزيد , وأغلب تلك الأسماء موجودة على صفحات الشبكة العنكبوتبة لو أراد أحد الإطلاع عليها Smile

  • طارق السعدي

    15/09/2010 05:21:48 م | الرد

    نقطة تحول جيدة وملفتة ، ولكن برأيي الشخصي لا يمكن تعميمها على كافة المصطلحات ولكن يكفي أن نعي أن المصطلحات العربية قد تعطينا فهماً أوضح في بعض الأحيان كما في المثال الذي ذكرته أنت .

    شكراً لك اخي وسام

  • wbahnassi

    17/09/2010 05:14:10 ص | الرد

    نقطة تحول جيدة وملفتة ، ولكن برأيي الشخصي لا يمكن تعميمها على كافة المصطلحات
    نعم ربما. لكن هذه التدوينة هي خبرة شخصية لفرد واحد فقط، وأنا واثق من أن آخرين قد واجهوا خبرات مختلفة أدت إلى ذات النتيجة.

    على كل أنا واثق من وجود أغلبية ترفض ما طرحته في هذه التدوينة، ولا ألومهم في ذلك، فالعوامل المؤثرة كثيرة... لكن اعتقادي بهذا الموضوع ثابت كالخرتيت: اللغة العربية لغة علم معاصر وبشدة! وشخصياً أصبحتُ أستشعر راحة كبيرة بعد التحول للتفكير بالعربية أثناء العمل وتطوير الخوارزميات والأبحاث المختلفة. منذ بضعة سنوات كنتُ أخطّ أفكاري البرمجية على الأوراق بالإنجليزية، أما الآن فهي بالعربية، وقد اكتسبتُ تحرراً وجزالة ما كنتُ أحسّها في الكتابات الإنجليزية (بالمناسبة: الويندوز الذي أستخدمه بواجهة استخدام عربية Smile، وهو في حد ذاته كنز من المصطلحات المترجمة لمن هو جادّ في هذا الصدد).

    قد يقول البعض:هع! يبدو أنك أصلاً لا تتقن الإنجليزية كما يجب، وإلا لكنتَ استخدمتـَها بارتياح وما اضطررتَ للّجوء للغتك الأم.
    فأقول أنا: ما شاء الله! لا أتقن الإنجليزية وبرغم ذلك أتحدث يومياً مع العشرات في العمل وأنشر المقالات التقنية والأبحاث بالإنجليزية؟

    أرجو أن يستوعب القارئ أنني أتكلم عن خبرة في الكتابة التقنية بكلا اللغتين مستمرة منذ ما يربو عن العقد من الزمن...

    وشكراً جزيلاً لتعليقك أخي طارق Smile

أضف تعليقاً

Loading