وسام البهنسي

مدونة مبرمج معماري

عن الزحام والطواويس وتطوير الألعاب

(كتبتُ هذه التدوينة منذ زمن بعيد ثم نسيت أن أنشرها، لكنها أخيراً وجدت طريقها للظهور... لذلك اعذروا عدم توافق توقيت الطرح مع الصيف الجاري)

الشتاء، لا يريد أن ينتهي.. نعم هناك مزايا كثيرة في مونتريال، لكن الشتاء الطويل يكاد يطرحها كلها بلا قيمة.

أخيراً بدأ ما يبدو أنه الربيع هنا، ومعه جاءت حساسية الربيع. فتجدون عيناي محمرتان وأنفي يسيل وحديثي سلسلة من العطاس الذي تتخلله بعض الكلمات أحياناً. قرب نهاية شهر مارس حاولت الهروب من مونتريال إلى كاليفورنيا ظاناً أني سأجد بعض الدفء. لكن لم يختلف الوضع كثيراً للأسف. السبب الآخر الذي أرسلني إلى كاليفورنيا هو أن شركة يونيتي (حيث أعمل الآن) تكرمت مشكورة بتكاليف حضوري مؤتمر GDC 2018 على أن آتي منه بما يفيدني ويفيد زملائي في العمل.

كانت هذه زيارتي الأولى لهذا المؤتمر السنوي، ومن متابعتي لمحتواه الذي يطرح على موقع GDCVault لدي فكرة عما يمكن توقعه. امتد المؤتمر على خمسة أيام كانت مرهِقة للغاية، والسبب ببساطة هو حجم الحشود التي تريد جميعها أن تفعل نفس الشيء في نفس الوقت. بدأت المحاضرة؟ 15 ألف زائر يدخلون القاعات. انتهت المحاضرة؟ 15 ألف زائر يخرجون من القاعات ونصفهم يذهب إلى دورات المياه. حان وقت الغداء؟ 15 ألف زائر يصطفون عند نفس المطعم.


الجميل في الموضوع هو أن القاعات لا تستوعب هذا العدد، وإذا لم تكن مصطفاً على خط الدخول للقاعة قبل بدء المحاضرة بنصف ساعة فلن تجد الفرصة للدخول. وهي معضلة حقيقية لأن زمن الاستراحة بين المحاضرات لا يتعدى النصف ساعة على الأكثر، مما يعني أنك لا تستطيع تغيير القاعات.
تخيل معي.. بعد أن تدفع ما يربو عن ألفي دولار أمريكي مضافاً لها ثمن تذكرة الطيران وإقامة الفندق، تذهب للمؤتمر فلا تستطيع الدخول للمحاضرات. نكتة ظريفة للغاية...
وهكذا ولأن الحاجة أم الاختراع، أصبح العبد الفقير يخطط جدول محاضراته وفقا للاستمرارية في نفس القاعة بدلاً من التخطيط وفقا لأهمية المحاضرات، وقد لعب معطفي دوراً هاماً في حجز المقعد عندما أضطر لمغادرة القاعة لسبب أو لآخر. وهكذا، لم تكن التجربة سعيدة البتة.

لكن لنلتفت إلى المحتوى. طبعاً كان جلّ تركيزي على مواضيع الرسوميات. ويبدو أن حظي لم يعرف أن يجلبني إلى المؤتمر إلا في السنة التي قرروا فيها الإعلان عن تقنيات تتبع الأشعة الجديدة في الزمن الفوري (real-time ray-tracing). طبعاً هذا تطور ممتاز، لكن ما قتلني غيظاً هو أن 90% من المحتوى تمحور حول هذا الموضوع وكأنه لم تعد هناك أبحاث في أية مجالات أخرى، لكن الأدهى من ذلك هو طريقة حديث بعض المحاضرين الذين أخذوا يفخرون بأنهم كانوا من الصفوة المنتقاة للتعامل مع مايكروسوفت وإنفيديا وإيه إم دي لاختبار الواجهات البرمجية الجديدة لتتبع الأشعة. فهاهم يتحدثون عن التحديات التي واجهوها في تجاربهم، وكيف ابتكروا حلولاً لها، ناسين أن كل المشاكل التي واجهوها قد واجهها كتاب محركات الرسم التقليدية منذ الثمانينات وقدموا حلولاً لها آنذاك توازي أو تتفوق على ما ابتكره هؤلاء السادة اليوم. ماذا أقول؟ كل هذه الكلفة والمشقة لأشاهد طاووس أو برميل أجوف يتحدث عن مشاكل محلولة من الثمانينات؟

بعد هذه التجربة، إن سألتني رأيي هل المؤتمر يستحق، أقول لك وفّر أموالك وجهدك واكتفِ باشتراك على GDCVault تطالع فيه كل هذه المحضرات دون أن تصارع أحداً على أبواب الدخول، بل وتنعم بحرية تجنب الأجزاء المملة من المحاضرات كيفما تشاء.

وعندما تسأل الزوار: لماذا تأتون للمؤتمر؟ جميعهم يردّون بأنها فرصة ممتازة لتجتمع بالناس. وبالفعل، في هذه الأيام الخمسة تشاهد وجه كل شخص عَمِل في صناعة الألعاب منذ العصر الطباشيري وحتى الآن. لكن في الواقع، الكل مشغول لدرجة أنك لا تستطيع حتى أن تستلب خمس دقائق من وقتهم. ثم اكتشفت أن المقصود بالاجتماع بالناس هو تلك الحفلات التي تقيمها الشركات الكبرى على هامش المؤتمر وتدعو لها الزوار مجاناً، مما يعني بعض المشروبات الكحولية والكثير من الصخب والتلوث الضوئي. كل هذا للأسف لا أعتبره من الميزات الإيجابية. قد ترتطم بأحد الأشخاص فتتعرف عليه كأحد مشاهير تطوير الألعاب، لكني لست من هواة التقاط الصور التذكارية مع أشخاص لم أعمل معهم من قبل أو لا يعرفونني وسينسون وجهي باللحظة التي أفارقهم فيها.

إذن باستثناء المحاضرات التي لا يمكنك دخولها والحفلات الصاخبة التي لا تستطيع أن تحصل منها على أي حديث هادئ مع من يهمك أمرهم، هل من دافع لحضور المؤتمر؟

ربما نعم. فكون كل هؤلاء الأشخاص مجتمعين في مكان واحد، فقد تستطيع الاتفاق مسبقاً مع من يهمك لقاؤهم للحديث في العمل وتطوير العلاقات والحصول على عقود أو اتفاقات جديدة. ولتحقيق هذا الأمر، ستحتاج إلى التواصل معهم قبل المؤتمر بحوالي الشهرين كي تضمن لنفسك وقتاً على جدول أعمالهم. وأخيراً فإن أغلب هذه اللقاءات تتم في أبهية الفنادق وقاعات الاجتماع خارج المؤتمر، وبالتالي لا داعي لدفع ألفي دولار أمريكي للدخول.

هناك بعض المنصات الجانبية للمطورين المستقلين وما إلى ذلك، لكني أظن أن الاستثمار بالحضور في المؤتمرات الموجهة للاعبين أكثر قيمة من تسجيل الحضور في مؤتمر للمطورين. على الأقل الصحافة هناك تبحث بالفعل عما يتحدثون عنه للمستهلك النهائي (اللاعب)، أما في GDC فربما يسعفك الحظ بصحفي متحمس يريد تغطية الألعاب التي ما تزال قيد التطوير. أما عن مرور المستثمرين لرؤية هذه الألعاب فإنني لم ألحظ حدوث هذا الأمر البتة، مقارنة مع ما يحدث في E3 أو PAX.

في النهاية، أعترف أن هذا الطرح سلبي. لكن بالنسبة لي التقييم كان من منظور الفائدة العلمية والعلاقات المثمرة، وفي كلا الجانبين لم أجد قيمة تكافئ الجهد والمال المبذولين. والخبر السيء أن الجهة المنظِّمة للمؤتمر متعاقدة مع نفس المركز (مركز موسكوني في سان فرانسيسكو) لخمس سنوات قادمة على ما أذكر.. ومع ازدياد أعداد المطورين الذين يرغبون في إثبات وجودهم فأعتقد أن السنوات القادمة لن تكون أفضل حالاً من هذه السنة، فبالتأكيد لن يكون حضور GDC على جدول أعمالي في تلك السنوات.. ربما أوفّر تلك الآلاف من الدولارات وأنفقها في أمور أكثر فائدة... أية اقتراحات؟

التعليقات (2) -

  • Mohamed Touiti

    29/07/2018 04:29:51 م | الرد

    لقد غيرت نظرتي الى هذا النوع من المؤتمرات. هل كانت هكذا في السابق؟
    بالمناسبة أنا أتابع مدونتك منذ مدة والمواضيع التي تحتويها قيمة حقا كما أنني معجب بطريقتك في السرد لما فيها من ظرافة وقدرتها على إيصال تعابيرك وأفكارك للقارئ.

    • وسام البهنسي

      22/04/2019 09:33:27 م | الرد

      كلا لم تكن هكذا في السابق، بدليل دعوات استبدال هذا المؤتمر ببديل أقل كلفة وأعمق موضوعاً. هذه الدعوات بدأت تنتشر مؤخراً مما يعني أن حالة الضجر من GDC جديدة وليست قديمة.
      أشكرك على إطرائك وإن شاء الله أكون في محل ثقتك دائماً.

أضف تعليقاً

Loading