بسم الله الرحمن الرحيم
كانت الرياح بقوتها وعنفها تعصف بشدة وكأنها تحاول أن تدفع جبروته عن الجندي الطريح أمامه ولكنه لم يبال بها وأقترب أكثر فأكثر حتى ضرب حذاءه حذاء الجندي المسكين. وضع يده على جنبه متجاهلًا صرخات الرجاء والاستغاثة وعانقت أصابعه ذلك الخنجر المفضل الذي لطالما اشتاقت له يده وكأنه تمنى أن يكون الخنجر جزءًا منه فقد اعتاد قبضته بعد أن تشرب هذا الخنجر كثيرًا من دم الأبرياء وهاهو يلهث لمزيد من الدماء … رفع خنجره عاليًا ونظر ببرود إلى وجه الجندي الذي قرر الاستسلام لقدره ورفع وجهه للسماء محاولًا ألا ينظر للخنجر وهو يخترق جسده. حط الخنجر في قلبه كما تهوي الصخرة من الجبل. فاضت روحه إلى بارئها … أخرج خنجه بكل وحشية وأعاده إلى مكانه وكأنما أعاد وحشًا إلى قفصه وتمتم في نفسه قائلًا: ... تسع وتسعون.
قضى مساءه في بيته ينظف خنجره كي لا يزول لمعانه الذي طالما أحبه وكأن شيئًا لم يحدث فقد طبع على قلبه منذ زمن بعيد ولم يعد إنسانًا. حتى منظره بدأ يصبح وحشيًا أكثر فأكثر. وبينما هو غارق في غفلته سمع صوت باب بيته يخلع وطرق أقدام عنيف حوله. هب من مكانه فزعا واحتاط بخنجره مستعدًا للقتال. رأى أمامه عشر رجال مدججين بالسيوف والخناجر. انقض ثلاثة منهم عليه حتى تمكنوا منه فكبلوه بالسلاسل واقتادوه نحو الخارج. رأى المدينة حوله مشتعلة وأصوات الصراخ لا تكاد تنقطع. وكان نظره يكاد لا يرى شبرًا دون حطام! رأى أفواجًا من الناس تدفع مثله حتى رمي بهم جميعًا في زنزانات متفرقة حالكة الظلام شديدة الأقفال … قضى يومه مذهولًا فلا هو يدري ماحصل له ولا يدري ماحصل لمدينته!
مرت الأيام والأسابيع والشهور حتى أطلق سراح كل من كان معه وما بقي في الزنزانة إلا هو وحيدًا. كان يطعم مايقيم له صلبه فقط فعاش نحيلا ضعيفًا بعدما كان قويًا جبارًا. وحدة السجن جعلته يتفكر في نفسه كثيرًا وفي ذنوبه. كان يقضي ليلة كاملة ينظر إلى يديه ويبكي متذكرًا كل ألم تسبب به لإنسان قبل هذا. فكر بالانتحار عل العالم يستريح منه لكن نفسه لم ترضى له أن يموت بعد كل هذا الألم الذي تسبب به. لا بد من أن يفعل شيئًا يكفر به ذنبه. كان يناجي ربه كل ليلة وكان حراس السجن يسمعون له أنينًا حتى رقت قلوبهم له. فذهب أحدهم إلى الملك وأخبره أمر هذا الرجل وطلب منه أن يحكم فيه بدل أن يبقيه في سجنه هذا.
استيقظ في أحد الأيام على صراخ أحد الحراس: أيها السجين … رفع رأسه ونظر نظرة لا يفارقه اليأس إلى وجه مناديه.
أشار إليه الحارس بأن يتبعه. تحرك متثاقلًا خلفه وهو لا يدري إلى أين سيذهب. تفقد المكان حوله و لكنه لم يتذكر نفس المكان الذي رآه قبل ثلاثين عامًا عندما سيق إلى الزنزانة. فهذه أول مرة يخرج من سجنه. كان المكان من حوله أكثر فخامة ورقي والسجاد من تحته يكاد أن تلتحف به من نعومته.
بعد أن مر في دهاليز عدة وجد مخرج السجن، تمتم بصوت ضعيف واهن : إلى أين … إلى أين أنا ذاهب؟
بقي الحارس على صمته المعتاد. بعد خطوات عدة ظهرت بوابة القصر التي كانت مختلفة كثيرًا عن البوابة التي رآها قبل 30 عامًا.
فتحت له البوابة ولربما ظن في نفسه أنه في جنة من الجنان فلم يرى في حياته فخامه كما رأى خلف دفتي هذا الباب. وفي آخر الممر كان على مقعده يحاور مستشاريه ولكنه سرعان ما فقد اهتمامه بقولهما عندما رأى هذه الجثة التي تجر عبر الباب وما إن أصبح السجين تحت قدمي الملك حتى تذكر الملك أمره.
تكلم الحارس الذي اقتاد السجين : مولاي … هذا هو السجين الذي سجن قبل سيطرتنا على هذه البلاد. ثلاثون عامًا بالتحديد. ومن ثم أردف قائلًا : ولقد أخرج كل أقرانه أما هذا فبقي لأنه كان مجرمًا قبل وصولنا أيضًا فقد قتل الكثير من الأبرياء.
تكلم الملك قائلًا : لا أرى أمامي قاتلًا .. إنما أرى كهلًا ضعيفًا حزينًا .. أخرجوه من سجنه كي لا يقال يموت السجناء في زنزاناتنا.
كانت الحرية له لا معنى لها فلربما خرج من زنزانته في السجن ولكنه لم يخرج من زنزانة ذنبه وآلامه فوجوه قتلاه لا تكاد تفارق مخيلته. ساورته نفسه بأن يجد شيخًا عابدًا يسأله الطريق للخلاص والتوبة فسأل بعضًا من أهل المدينة حتى دلوه على شيخ صالح يسكن في كوخ أعلى الجبل. شد الرحال له آملًا الخلاص.
دخل على الشيخ مطأطأ رأسه وبعد السلام والتحية أخبره قصته، فما كان من الشيخ إلا قال :
لا و ألف لا. قاتلك الله! لم يدري تلك اللحظة ماحدث له ولكن الدنيا اسودت في وجهه فما كان منه إلا وقام فدفع الشيخ في غضب فتعثر الشيخ واندفع ساقطًا من النافذة ولم يرحم سقوطه أنه كان يسكن في أعلى الجبل فما كان نتيجة سقوطه إلا موته.
جلس في ركن من أركان المنزل وأجهش بالبكاء .. لا يدري ماذا يحصل له! قد طلب التوبة فما وجد نفسه إلا ويعود قاتلًا كما كان ويتم المئة شخص، مئة شخص قتلهم بلا رحمة. بدأت الأشباح تلاحقه مرة أخرى، حينها نظر نحو النافذة وقرر أن يقفز خلف من قتل وينهي هذه الحياة البائسة، فلا أمل له.
وبينما كان يستعد ليلقي بنفسه دخل الباب شاب في مقتبل العمر يحمل على ظهره كتب عدة ويبدو أنه كان قاصدا الشيخ أيضًا. وأدرك ذلك الشاب نية السجين فما كان منه إلا وأن قفز عليه كي يمنعه من أن يلقي بنفسه وكان ذلك الأمر سهلًا على شاب في عمره. قام بحل الحبل الذي قيد فيه كتبه وقام بربط وثاق السجين إلى أحد أركان المنزل كي لا يكرر ما حاول القيام به.
بعد حوار طويل شرح فيه السجين قصته للشاب كلها فسكت الشاب حينها هنيهة وأردف بعدها قائلًا :
لقد أخطأ الشيخ عندما قال لك أن لا توبة لك! ومن يمنعك من رحمة الله يارجل! والله إني ظننت أنني في ترحالي إلى هذه المدينة سأجد شيخًا أتعلم منه، وهاهو يجهل الرحمة! أخرج طالب العلم من جيبه منديلًا ومسح دموع السجين وقال :
أيها الشيخ تعال معي نغادر هذه المدينة وأذهب بك إلى مسقط رأسي فأهلها طيبون ويفقهون بالدين، علك تتعلم منهم وتتقرب لله أكثر.
سماع السجين لهذه الكلمات كان كإكسير الحياة الذي أفاقه من اكتئابه الذي دام ثلاثين عامًا وربما أكثر! وبينما كان الشاب يفك قيده شعر بأنه لا يفك هذا القيد فقط إنما يفك قيود قلبه كلها التي دامت عقود طويلة. وشعر بطمأنينة وسكون وسعادة لم يجدها قبل سجنه حتى!
أمسى المسافران على درب طريقهما نحو المدينة الصالحة و كان الشاب في الطريق يدرس الشيخ كل ماتعلمه وكان الشيخ مستمع جيد ولا يكتفي بذلك فقط بل يسأل ويحاور وبينما هما على ذلك سقط الشيخ أرضًا وتبسم بعدها ابتسامة انطلقت إثرها روحه لخالقها فغلب على ظن الشاب أن الشيخ قد كتب له الرحمن الخاتمة السعيدة فدفنه وصلى عليه وسأل الله حسن الخاتمة. ولكن بقيت تلك الابتسامة لغزًا لم يستطع أن يعرف سره …
هذه القصة مستوحاة من حديث الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم :
كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعةً وتسعين نفسًا . فسأل عن أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على راهبٍ فأتاه فقال : إنَّه قتل تسعةً وتسعين نفسًا . فهل له من توبةٍ ؟ فقال : لا . فقتله . فكمَّل به مائةً . ثمَّ سأل عن أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ . فقال : إنَّه قتل مائةَ نفسٍ . فهل له من توبةٍ ؟ فقال : نعم . ومن يحولُ بينه وبين التَّوبةِ ؟ انطلق إلى أرضِ كذا وكذا . فإنَّ بها أُناسًا يعبدون اللهَ فاعبُدِ اللهَ معهم . ولا ترجِعْ إلى أرضِك فإنَّها أرضُ سوءٍ . فانطلق حتَّى إذا نصَف الطَّريقَ أتاه الموتُ . فاختصمت فيه ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العذابِ . فقالت ملائكةُ الرَّحمةِ : جاء تائبًا مقبلًا بقلبِه إلى اللهِ . وقالت ملائكةُ العذابِ : إنَّه لم يعمَلْ خيرًا قطُّ . فأتاه ملَكٌ في صورةِ آدميٍّ . فجعلوه بينهم . فقال : قِيسوا ما بين الأرضين . فإلى أيَّتِهما كان أدنَى ، فهو له . فقاسوه فوجدوه أدنَى إلى الأرضِ الَّتي أراد . فقبضته ملائكةُ الرَّحمةِ . قال قتادةُ : فقال الحسنُ : ذُكِر لنا ؛ أنَّه لمَّا أتاه الموتُ نأَى بصدرِه . (مسلم)