في مثل هذه الأيام من السنة الماضية بدأ دوامي في الجامعة، جامعة دمشق إن أردنا التحديد. لم يكن قرار اختيار الكلية Faculty بتلك السهولة، فالبنسبة لي كانت علوم الحاسوب هي الهواية والشغل الشاغل لسنوات طويلة. كان هدفي طوال عمري أن أدرس تلك العلوم في الجامعة، ولكن بعد أن أصبح بإمكاني دراستها في أية جامعة في سورية، اتخذت قراراً جديداً بدراسة طب الأسنان. قرار لم يوافقني عليه كل من أعرف، ولكنه قراري الذي اتخذته وناقشت تبعاته في الجزء الأول من سلسلة مقالات أسميتها "شق طريقك بنفسك".
كانت هذه المقدمة خلفية عن وضعي عندما دخلت الجامعة، شخص يحمل عقلية وفكر مبرمج يدخل الجامعة ليدرس مواداً طبية. خليط غريب بعض الشيء ولكنه جميل. كانت تلك السنة سنة رائعة بحق، سنة قاسية علمتني دروساً عديدة (سأتحدث عن أهم الدروس التي عملتني إياها الحياة في تلك السنة ولكن في مقالة منفصلة، ليس هذا هو موضوعنا الآن) وتعرفت خلالها على عشرات الأشخاص الجدد الذين أصبح الكثير منهم أكثر من مجرد زملاء فيما بعد.
كانت بين ذلك الزحام وجوه بارزة تركت أثرها الدائم في حياتي، كان هناك الكثير من الأشخاص الرائعين الذي غيروا حياتي بوجودهم. كنت أتلقى منهم الدعم والتشجيع على دراستي طب الأسنان من جهة، وعن المبرمج الرائع الذي أكونه من جهة أخرى، مديح لا أستحق ربعه طبعاً. شكراً لكم يا أصدقاء :) لاأزال أذكر على سبيل المثال كم سررت عندما تحدث معي أحدهم ليخبرني عن البرامج التي سيستطيع طبيب مبرمج أن يقدمها لأطباء الأسنان وكم أن المجتمع الطبي يحتاج مثل هذه التطبيقات. (لازلت أذكر وعدي لك بإعطائك نسخة مجانية ;) )
كيف بدأ مشروع التبادل
وضعت قاعدة طبيب-مبرمج هذه في بالي وقد أصبحت على معرفة واسعة بكلية طب الأسنان، أصبحت أعرف تماماً مشاكل الطلاب واحتياجاتهم وطريقة عمل وتنظيم العيادات الجامعية والتعامل مع المرضى والتعامل بين الطلاب أنفسهم. ففكرت بخلفية المبرمج في إنشاء موقع خدمي لتلبية بعض تلك الاحتياجات وتسهيل القليل من هذا التعامل.
ما أكد لي هذه الضرورة هو الطريقة التي يستخدم بها الطلاب موقع Facebook، الموقع يتيح مرونة لا بأس بها ليستطيع الطلاب التعرف على زملائهم أكثر، وخلق بيئة من المودة بسرعة كبيرة، خاصةً وأن الاستعمال كانت يتراوح من الدردشة والتسلية حتى تبادل المعلومات عن المحاضرات وأسئلة الامتحانات، رغم ذلك، لم تكن تلك المرونة كافية وكنا نحتاج لما هو أكثر.
المشكلة التي تنفرد بها كلية طب الأسنان هو أن هناك *العديد* من مواقع الطلاب، عدد أكبر من أن تستطيع إحصاءه. جميع هذه المواقع تعتمد مبدأ المنتديات، لسهولة إنشاء منتدى حتى ممن ليس له أي خبرة تقنية أو برمجية. المحصلة هي عدد كبير من المنتديات التي تنافس وتقتل بعضها. إن أردنا المصلحة الحقيقية للكلية والطلاب فيجب أن يكون هناك تعاون بشكل ما بين تلك المنتديات. يجب أن يكون هناك توحيد جهود بشكل ما ليرتقي المستوى الأكاديمي للكلية.
لم تكن فكرة الموقع تندرج تحت تصنيف المنتديات وكان له مجال عمل منفصل، لذا لم أخش المنافسة والغرق في زحام تلك المواقع الكثيرة القائمة أصلاً. كان مجال عمل موقعي هو تحقيق التواصل بين الطلاب ليستطيعوا *التبادل* فيما بينهم بسهولة، دائماً قد تجد عند طالب آخر ما تحتاجه وقد يحتاج هو ما عندك، وهكذا نشأت فكرة مشروع
التبادل. تبادل ماذا؟ لو كنت تدرس طب الأسنان لعرفت حجم المعلومات التي يتحتاج الطلاب أن يتبادلوها: عناوين مرضى (قد يكون عندك عنوان مريض في عيادة كذا ولكنك تحتاج إلى مريض في عيادة أخرى)، تبادل المحاضرات والتسجيلات الصوتية، نماذج امتحانية وأسئلة دورات امتحانية سابقة، تبادل الزمر والفئات وأوقات الدوام، دفاتر ورسوم، صور مجهرية،.... إلخ.
عرضت الفكرة على عدد من الأصدقاء المقربين وأعجبتهم جميعاً، لا أعرف إن كانوا يعنون ما قالوه من تشجيع أم أن الأمر كان مجرد مجاملة، المهم أنني أصررت على المضي قدماً وتنفيذ الفكرة رغم ما سمعته من توقعات كثيرة بالفشل من طلاب سنوات أعلى فقد كانت هناك عدة محاولات لإنشاء مواقع (منتديات مرة أخرى!!) في بدايات دراستهم وفشلت.
قال لي أحد الأصدقاء مبتسماً بلطف، "لو سمعت أنا ما قاله الطلاب الأكبر لخفت أن أفشل ولما فكرت في الاستمرار، ألا تخاف أن تفشل حقاً؟"، فأخبرته أن "السقوط في فخ فشل كهذا لن يؤثر علي ولن أموت، كما أننا نستعلم الكثير عن الكلية والطلاب أثناء العمل على المشروع".
قبل أن أبدأ في العمل على المشروع، تعرفت على الدكتور لجين جباوي، صاحب موقع أسنانك.نت، موقع مرموق وأحد أول مواقع طب الأسنان باللغة العربية. كان للدكتور لجين عرض في ملتقى Pecha Kucha الأول في دمشق والذي دعاني إليه أحد الأصدقاء. التقيت بالدكتور وتحدثت معه لعدة دقائق عن فكرة مشروعي لأحصل على موعد منه ليستضيفني في مكتبه في اليوم التالي. كان استقبالاً كريماً منه عرضت عليه فكرة الموقع بالتفصيل لأحصل على عرض أكثر كرماً، دعم كامل من موقع أسنانك.نت لمشروع التبادل، والذي قررنا تسميته، بناء على اقتراح صديق عزيز آخر، DentExch (اختصار لـDental Exchange).
العرض الذي قدمه د.لجين كان كل ما يحتاجه مثل هذا الموقع لينجح، فقد قدم لي التغطية الإعلانية والتسويقية، ووضع منتديات أسنانك.نت تحت تصرف مشروع DentExch ليتم إعادة هيكلتها بما يخدم المشروع. ثم عرض علي جناح في معرض الرعاية الصحية 2010 في قسم طب الأسنان. هذا الجناح وكذلك عرض الفكرة على الطلاب في الجامعة سمح لي بلقاء عشرات الطلاب والتحدث معهم عن الفكرة لأسمع اقتراحاتهم وتحذيراتهم. ولتصبح الفكرة أكثر نضجاً.
بعد أن أصبحت الفكرة ناضجة بدأت ببرمجة الموقع والعمل على الجانب التقني منه، لينتهي العمل التقني خلال فترة
وجيزة. المشكلة في مثل هذه المواقع هو أنه بالبرغم من سهولة خلقها وبنائها، إلى أن تنميتها والنهوض بها ليس بتلك السهولة.
بداية إيقاف المشروع
لقد تسرعنا بعض الشيء ومضينا قدماً في المشروع قبل التفكير العميق بإجابة عدة أسئلة. هذه الأسئلة ستحدد نجاح المشروع أو فشله مستقبلياً. كان يجب أن نفكر أكثر بالطريقة التي سنجذب بها الناس إلى موقعنا. هل سنقدم للطلاب ما يجعلهم يصبحون مستخدمين فعالين للموقع أم لا؟! نجاح هكذا مشروع سيتطلب مساهمة نسبية كبيرة من الطلاب فيه، هل إمكانية الطلاب (وقت، نشاط، اتصال بالإنترنت، معرفة...) ستسمح بتحقيق تلك النسبة أم لا،
وهل من الممكن أن نستطيع جذب النسبة الكافية؟ ثم من قال أن الطلاب سيثقون ويستعملون موقعاً للتبادل؟ لا تروق فكرة عرض ما تملكه من موارد على الإنترنت للجميع. ثم من قال أن التعامل الشخصي في الكلية من ناحية، ومواقع الإنترنت الموجودة حالياً من منتديات وFacebook من ناحية أخرى لا تؤدي غرض التبادل؟ إن تغلبنا على هذه العوائق، سنصطدم بتحدي أكبر هو تحدي مشاركة المستخدمين والذي سنتحدث عنه بعد لحظات.
لجذب الناس إلى الموقع تم اقتراح فكرة وجود قسم يحوي مصادر ومواد علمية مفيدة للطلاب، وهو مختلف عن قسم التبادل، يحوي هذا القسم محاضرات وصور مجهرية وتسجيلات. أصبح هذا القسم فيما بعد قسم أساسي في المشروع لا يقل في أهميته عن قسم التبادل بحد ذاته. السبب هو أننا وجدنا أن مثل هذا القسم سيكون مفيداً جداً، فليس هناك أي مشروع أو موقع قام بأرشفة كل ذلك الكم الهائل من المعلومات المبعثرة عند مئات الطلاب. لجمع وأرشفة كل تلك المعلومات في موقع مركزي لن نستطيع أن نعمل وحدنا، سنحتاج إلى جهود العشرات من الطلاب النشيطين. ولكننا سنصطدم بحقيقة مريرة تشكل تحدي كبير لأي موقع، وهو مرة أخرى، تحدي مشاركة المستخدمين.
تحدي مشاركة المستخدمين
الغالبية العظمى من المستخدمين سيكتفون بالتلقي واستهلاك المعلومات دون المساهمة في صنع تلك المعلومات. هذه القاعدة فهمتها منذ زمن وسمعت عنها مراراً أثناء مشاركتي في المجتمعات البرمجية على الإنترنت Online communities.
تقول هذه القاعدة والمسماة 90-9-1 أن معظم المستخدمين (حوالي 90% من مستخدمي الموقع) هم مجرد مستهلكين، مستخدمين يترددون على الموقع لتلقي وقراءة ورؤية ما يقوم به الآخرين. إن فرضنا أن عدد مستخدمي الموقع سيصل إلى 500 مستخدم (وهو رقم كبير جداً في بدايات الموقع)، فيمكننا أن نقول بكثير من التفاؤل أن عدد المستخدمين الذين سيقومون بأي تفاعل لن يزيد عن 50 مستخدم. 9% من المستخدمين سيقومون بتفاعل مع المحتوى الموجود أصلاً، هذا التفاعل هو تعديل أو إضافة معلومات في قسم المعلومات، والاستجابة لإعلان تبادل في قسم التبادل، 9% تعني أن حوالي 45 طالب فقط سيتركون أثر طفيف ما على
الموقع. 1% فقط من المستخدمين (5 فقط!!) من سيقومون بخلق المحتوى، أي أنني وعدد قليل جداً من أصدقائي لن يتجاوز عدد أصابع اليد الواحد من سنقوم بإضافة المعلومات في قسم المعلومات، ووضع بعض
الإعلانات في قسم الإعلانات. لا أريد أن أخدع أحداً، لن يقوم بخلق المحتوى سوى فريق صغير جداً من الطلاب، هذا الفريق اعتبر ذلك هدراً لجهده ووقته، صحيح أن هناك عدد جيد عرض المساهمة، ولكنه يتوقع من المشروع أن يفيده بشيء ما في المقابل، معه حق
في ذلك ولكن المشروع لن يستطيع أن يحقق له فائدة تناسب جهده للأسف. هذه القاعدة صحيحة وتسير عليها جميع المواقع الجماعية على الإنترنت، ابتداءً بالصغيرة منها وانتهاءً بالكبيرة. لنأخذ بعض الأمثلة:
-0.2% فقط من زوار Flickr قاموا بوضع أي صورة عليه.
-0.07% فقط من مستخدمي Wikipedia هم من قام بأكثر بخلق وتعديل أكثر من 50% من محتوى ويكيبيديا.
-0.16% فقط من زوار YouTube قاموا بوضع أي فيديو عليه.
نلاحظ أن هذه الأرقام تصبح أقل بكثير من 1% مع ازياد حجم الموقع.
المحصلة هي أن الموقع سيصبح مرجع يشاهد الطلاب ما يقوم بوضعه فريق الموقع. ليس هذا الكلام نظري فقط، ولكنه ما شاهده صديقي القديم علاء والذي أصبح شريكي في المشروع، لقد تحدث مع عدد *كبير* من الطلاب وعرف تماماً إمكانية مشاركة كل منهم في مشروع كهذا، وهو الذي أقنعني بأن الموقع سيتوقف بمجرد توقف فريقه عن إضافة المحتوى. إن كان أي موقع جماعي ناجح فهو قائم على جماعته من المستخدمين وليس على جهود فريقه فقط.
النهاية
وهكذا قررنا إيقاف المشروع قبل أن نضيع المزيد من وقتنا ووقت من ساعدنا، لا أريد للموقع أن يؤثر على دراسة أحد دون أن يحصل على مقابل مفيد فعلاً، وهو ما أتيقن أنه لن يحصل.
في النهاية، لا أريد لكل ذلك الجهد أن يذهب هباءً، يمكن لأي طالب طب أسنان يعتقد أن سيستطيع أن يسير وينهض بالمشروع أن يتحدث معي ويشرح لي خطته وسأسلمه المشروع كاملاً، البنية البرمجية والتقنية الجاهزة وكل ما عندي من معلومات وأفكار قمت وأصدقائي بجمعها وتنسيقها والعمل عليها خلال فترة عدة أشهر.
لنا لقاء قريب آخر إن شاء الله، وكل عام وأنتم بألف خير :)