وسام البهنسي

مدونة مبرمج معماري

المبرمج رقم واحد

السلام عليكم،

منذ بضعة سنوات عرّفني عبد الرحمن (نعم، فقط عبد الرحمن فهو هكذا غني عن التعريف)، عرفني من خلال دراسته على الحوسبة الكمّية (quantum computing). وحدثني عن تجربة القط الذي يعيش (ربما) في حالة غير معروفة داخل صندوق إلى أن يقرر أحدهم ويقوم بفتح الصندوق. وعن قدرات الحاسوب الكمّي الخارقة مقارنة بالحاسوب التقليدي.

جذبني الكلام لاطلع قليلاً على إحدى المحاضرات العلمية المسجلة على الإنترنت عن الحوسبة الكمّية. للأسف نسيت عنوان المحاضرة ولم أتمكن من إيجادها مرة أخرى. المهم أن المحاضر بدأ كلامه أمام جمهوره الكبير، وبعد حوالي خمس دقائق أقتبس مما أذكر أنه قال:

"إن قدرات الحاسوب الكمي على درجة من التفوق حتى أنها تستطيع أن تقوم بكافة الحسابات في الكون.. في الحقيقة، نحن نعتقد أن هذا الكون مسيّر من قبل حاسوب كمّي."

صفعني كلامه في فجاءة، فنحن نتحدث هنا بموضوع علمي بحت. ما لزوم الدخول في مثل هذه الآراء الشخصية؟ إن كنت يا أخي ملحداً وتبحث لنفسك عن تفسير لتسيير الكون فهذا من حقك، لكن لا داعي لأن تستغل وقوفك على منصة أعدّت لأهداف أخرى لإيصال أفكارك هذه. أوقفتُ المحاضرة عند هذه النقطة وقد فقدت كل شهية لمتابعة كلام هذا السيد، ثم نسيت الموضوع برمته.

لماذا أتذكر هذه القصة الآن إذن؟ ربما ما أيقظها هو المعدل المتزايد من حالات الإيمان بدين العلم التي تجول حولنا هذه الأيام. لكنني الآن عندما أفكر بكلام السيد المحاضر آنف الذكر، أجد أنه وبالرغم من نيته العاطلة في الطرح، إلا أن كلامه في الحقيقة لا ينفي وجود الخالق. فحسب علمي الحاسوب لا يبرمج نفسه سواءً كان كمّياً أم تقليدياً، وبالتالي هناك مهندس مبرمج أنشأ هذا الحاسوب الكمّي المفترض وبرمجه ليقوم بحساب الكون.

لكن كمسلم يؤمن بأن الله أكبر، فأنا أؤمن بأن أبسط خلق الله يبقى أعظم مما قد يبتكره أي بشري. لذلك فإنني أجد أن مثل هذه الأطروحات ليست سوى مجرد استقراءات قصيرة. فحتى لو أتى أحدهم وقال إن اللوح المحفوظ هو قرص صلب ضخم أو إن حاسباً كمّياً يقوم بتسيير الكون، فهذا لن يقدم أو يؤخر حقيقة أن الكون كان يسير قبل وجودنا بملايين السنين -وما زال- بقوانين ونظم أرساها مبدع لم يرقَ لإبداعه شيء، وهذا بحدّ ذاته يكفي لأن يكون هو وحده من يستحق العبادة، وليس أي شيء أو أحد من دونه.

بحكم عملي الأخير كموجه تقني (Technical Director) في إحدى الشركات الكبيرة، كنتُ مضطراً لتحكيم المتقدمين لوظائف البرمجة في الشركة. مما يعني أنني أحتاج لمعايير تحدّد مَن المبرمج الأفضل ومن الأسوأ. ربما مِن أبرز هذه المعايير هو مقدار خلو برامج هذا الشخص من الأخطاء... نعم، فالمبرمج المثالي هو ذلك الذي تخلو برامجه تماماً من الأخطاء، أو ما يدعى بالبق (bugs). وإذا أخذنا تعريف البقة على أنها أي تصرف لا يتوقعه المبرمج من برنامجه، فإن هذا يعني أن المبرمج المثالي يستطيع في أية لحظة خلال سير برنامجه بأن يخبرك بوضع البرنامج الحالي وماذا سيفعل البرنامج مستقبلاً تحت أي شرط كان.

لو أتينا بالسيد تورو إيواتاني صانع لعبة باكمان، وسألناه كيف ستتحرك الأشباح انطلاقاً من أية لحظة في اللعبة فإنه سيخبرنا بالسر وذلك نظراً لبساطة المنطق الذي وضعه هو بنفسه لتحريك هذه الأشباح. ولو كانت لدى تورو القدرة على قراءة أفكار اللاعب ومعرفة كيف سيتصرف وفقاً لما سيواجهه، فإن تورو سيستطيع أن يخبرك بنتيجة اللعبة حتى قبل أن تبدأ. للأسف هو يفتقد لهذه الملَكَة، ففي النهاية هو مجرد بشر آخر كما هو اللاعب الذي يلعب لعبته.

أما بالنسبة لمن خلق البشر الذين بدورهم صنعوا أجهزة حاسوب، فإن هذا الخالق يعرف ما يحدث مع مخلوقاته في كل لحظة حاضراً وماضياً ومستقبلاً. إذن مِن الطبيعي جداً لمن يحمل هذه المواصفات أن يكون هو العالِم المحيط بكل شيء الذي لا يغيب عنه مثقال ذرة. فكل شيء يسير وفقاً للبرنامج المحكم الذي وضعه، ولن يخرج شيء عن توقعاته. هذا البرنامج أثبت كفاءته، فهو يعمل منذ ملايين السنين ولم يتوقف أو تظهر به بقة حتى الآن.

نعم يا سادة... نحن لسنا سوى صفر على الشمال... أما من كتب البرنامج الذي يسير الكون، فذلك هو المبرمج رقم واحد!

أضف تعليقاً

Loading