مدونة انس

شارك الغير بما تعرفه، حتى تتمكن من التقدم

رحلة إلى إثبات الوجود

السلام عليكم.

 

كأول مشاركة لي في هذه المدونة، احببت مشاركتكم قصة قصيرة قمت بكتابتها منذ ثلاث سنوات.قد يتسأل البعض عن سبب ادراج قصة كأول مشاركة عوض التعريف بنفسي او بالمدونة، لكن لابأس فللقصة عبرة نجاهد كلنا لتعمل بها ابتسامة. اترككم الان مع احداث القصة، باسم الله :

 

رحلة إلى إثبات الوجود   

 

 

 

 

شاء القدر لوليد أن يولد في كنف عائلة متماسكة متحابة غير أنها عسيرة الحال , يعيش أفرادها في بيت أشبه بالكوخ منعزلا عن أحياء المدينة. أبوه صالح يعمل دون راحة , رغم ذلك فلا يكاد يكسب ما يسد جوع عائلته الصغيرة. لقد أعيت هذه المسؤولية ساعداه, و لكنه دوما يعض على لسانه حتى لا يشتكي فيزيد أهله هما على هم.

 

ترعرع وليد في هذه البيئة القاسية التي تهلك بعض الناس إلا أنه بنيته الخالصة لم يكن يدرك حقيقة مأساته , فقد كان يرى دموع أمه تفيض كلما تشبث بردائها قائلا: " ماما..ماما بطني تؤلمني....أنا جائع يا ماما ". ثم يبكي لبكاء أمه التي تضيق بها الدنيا كلما سمعت هذه الكلمات من فلذة كبدها و مما زاد الطين بله أن وليد في الثالثة من عمره يحب اللهو و اللعب, و لكن مع من ؟...بيته معزول عن الأحياء الأخرى فيذهب يجوب الأحياء مع أمه التي تبحث عن قوت تسد به جوع طفلها الذي ما إن يرى طفل في مثل سنه حتى يهرع إليه مبتسما سعيدا يريد أن يلعب معه و لكن كل من يلقاه يهرب منه أو يضربه أو يشتمه فتتحول تلك الإبتسامة البريئة إلى حزن و استفسار و بكاء ثم يعود إلى أمه مطأطئ الرأس و لكنه يعاود الكرة كل ما رأى صبيا آخر,حتى تخرج عليه بعض نساء الحي و هن يصرخن فيه و في أمه :"ابتعد أيها القذر, خذي ابنك من هنا أيتها المقرفة , أبعديه عن أبنائنا فهو ليس مثلهم ". ثم تنصرف كل واحدة منهن ماسكة ابنها و تدخل إلى بيتها, مانعات وليد و أمه من أي قوت. فاحتار وليد و سأل أمه بكل براءة : " ماما ؟ لماذا لا يلعب معي أحد ؟ لماذا يقولون أني مختلف عنهم ؟ لماذا يعاملنا الناس بهذه الطريقة ؟ ".

 

كلمات نابعة من فيه طفل صغير مزقت قلب أمه التي احتضنته و هي تبكي بحرقة و تدعو الله الصبر و الرحمة ثم قبلت جبهة وليد و قالت له: " لا يا بني لست مختلفا عنهم أبدا, فأنت مثلهم تماما و لكنهم..." . ثم سكتت غير قادرة على متابعة الكلام. و لكن هذا الجواب الناقص بقي راسخا في ذهن وليد الذي أراد له جوابا شافيا لكن دون جدوى.

مرت الأيام و السنون و أتى اليوم الذي التحق فيه بالمدرسة...يوم من أندر الأيام التي تضفي نوعا من البهجة و السرور على هذه الأسرة البائسة ,نعم بائسة و لكنها ليست بجاهلة لأنها لم تمنع العلم عن ابنها.

 

اقتاد صالح ابنه إلى المدرسة و هو مبتسم , و لكن أين البيت؟ و أين المدرسة ؟ بينهما مسافة كبيرة جدا لا يتحملها طفل صغير, لكن وليد لم يرد أن يشتكي من ذلك فيعكر جو البهجة الذي يغمر قلب أبيه.

 

و أخيرا وصل وليد رفقة أبيه إلى المدرسة و ما إن وصلا حتى تغيرت ملامح صالح..لقد كان كل الأطفال بلباس جديد أما هو فلم يستطع أن يوفر لابنه إلا حذاءا جديدا فقط فأحزنه ذلك, و لكن وليد قال له و كأنه يحاول التخفيف عنه: " أبي أنا اليوم سعيد جدا يا أبي, أتمنى أن أجد أصدقاء هنا ". ثم ابتسم ابتسامة عريضة جعلت أباه يتأثر بشجاعة ابنه.

 

بعد دخول التلاميذ إلى المدرسة وجد وليد أن الرياح لا تجري بما لا تشتهيه السفن , فبعض زملائه أهانه و البعض الآخر هدده بالضرب و الباقون تجنبوه و حتى أستاذه الذي من المفترض أن يعدل بينهم لم يعره أي اهتمام يذكر فاشتعلت نار العزيمة في قلب وليد و عزم على إثبات وجوده بنفسه. و هكذا كان وليد الأول في الامتحانات دائما, فكانت هذه الن��ائج كالعسل شفاء لوالديه و كالزيت على نار الحقد و الغيرة التي يكنها له زملاؤه...نعم زملائه اللذين أهانوه و نعتوه بأبشع الأوصاف أصبحوا يغارون من وليد الفقير , الطفل الذي عض الفقر بنابه و نهش أهله و لكن أنيابه تحطمت عند إرادة وليد الصلبة.

 

أتم وليد المرحلة الابتدائية و الأساسية بنجاح باهر رغم أنه كان يعاني الكثير قبل الحصول على قلم أو كراس لكنه نجح و وصل إلى المرحلة الثانوية...كانت هذه المرحلة ذات قيمة جوهرية  لوليد , فبفضل نتائجه الرائعة نال احترام جميع أساتذته , كما استطاع أن يحقق واحدا من أحلامه حيث أنه وجد شخصا اسمه هشام تقبله لذاته فأصبحا صديقين قريبين بالكاد لا يفترقا عن بعضهما.

 

بعد تفوقه في الدراسة أصبح وليد حديث التلاميذ اللذين أفحمتهم نار الغيرة لما آل إليه رغم صعوبة ظروفه, إلا أن هذا الكلام التافه زاد من عزيمته و قرر أن يشمر على ساعديه و يعمل في أوقات الفراغ ليساعد أباه في أعباء الحياة.

اجتاز وليد الامتحان النهائي , و انتظر هو و أهله النتائج بفارغ الصبر, و ما إن ظهرت النتائج حتى جاءت المفاجئة الكبرى, وليد هو الأول في الامتحان بمدينته , نتيجة لم تخطر على بال أحد حتى أن أم وليد أغمي عليها و أجهش أبوه صالحا بالبكاء من شدة الفرح بابنهما.

 

بعد هذه المفاجأة الكبرى أصبح الناس يتكلمون عن وليد و كأنه ذاك الملاك الطاهر المنزل من السماء و يضربون به المثل متناسين أن هذا هو نفس الوليد الذي ذموه و أهانوه في صغره.

 

انتقل وليد إلى المرحلة الجامعية و هنا كان التغير الكلي في حياته, فقد من الله عليه بعمل يقتات منه هو و أهله و أصبح كل الناس يحترمونه و يقدرونه و يقتربون إليه. و بعد أن أتم وليد دراسته العليا مكنته شهادته من إنشاء شركة صغيرة سمح للغير العاملين في مدينته بالعمل فيها و بمرور الوقت أصبحت هذه الشركة ذات قيمة و اعتبار وطني.

و أخيرا و بعد سنوات من الكفاح, استطاع وليد أن يجد الجزء المفقود في جواب أمه: " لست مختلفا عنهم و لكنهم يقيمون الإنسان حسب مظهره و ماله. و فعلا فبعد أن فتح الله على وليد الصبور و أصبح صاحب شركة ذات شأن, و تحسنت أحوال أهله, أصبح الناس يزورونهم و يحترمونهم و يبدون لهم المودة لنيل مصلحة ما فأصبحوا الآن ينادون ذاك الصغير الفقير ب"السيد وليد".

 

 

 

                                                             مصطفاوي محمد أنس   

 

الى اللقاء ، و الى التدوينة التالية غمزة ، سلام

رحلة الى اثبات الوجود.doc (33.50 kb)

Mostefaoui Anas Story.rar (9.17 kb)

التعليقات (2) -

  • وسام البهنسي

    11/11/2010 03:48:43 م | الرد

    قصة رائعة انغمستُ بها وأحببتها!  داعبتْ أفكاري الطفلة وستبقى في مخزن ذكرياتي كمرجع لكتابة قصص بسيطة لا تضع حواجزاً بينها وبين القارئ...

    أنت موهوب يا أنس، وأنا من متابعي قصصك وتدويناتك الدائمين إن شاء الله!

  • انس

    11/11/2010 08:42:12 م | الرد

    شكرا جزيلا استاذ وسام لزيارتك لمدونتي و قراءتك للقصة، ساسعى بعون الله الى تدوين الافكار التي تجوب بالي. شكرا جزيلا مرة اخرى

أضف تعليقاً

Loading