الكلمات الضائعة

مدونة بقلم أسامة السلمان

السعادة أم الطمأنينة

بسم الله الرحمن الرحيم


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


أحبتي في الله، اليوم حديثي في موضوع جال في خاطري لشهور عدة وقد ارتأيت أن أشارككم خلاصة هذه الرحلة الفكرية في كلمات هذه التدوينة...

نظرت في حال الناس وتفكرت ووجدتنا ننقسم في فلسفة الهدف والمغزى في الحياة إلى قسمين لم أعتقد أن لهم ثالث، فأما الأول وهم القسم الذي يقدم السعادة على المشقة ويرى أن سعادة قريبة بسيطة خير من سعادة بعيدة كبيرة، أي يحب أن يفعل مايسره في يومه دون النظر في مستقبله وهذا النوع قد يبدو ظاهرا هو النوح المريح وهو النوع الذي يجب أن يكونه الجميع ولكن النظرة العميقة في هذا التوجه تخالف هذا. فترى الناس ذوي نظرة سعادة اليوم أسهل الناس وقوعًا في شباك الشهوات وتراهم مفرطين في مستقبلهم وفي الغالب لا يكونون أصحاب نهايات سعيدة. ولكن للإنصاف فإن هذا النوع يمتلك ميزة سعادة اللحظة فتراه واقعًا في آلاف من الهموم ولكنه لا يلقي لها بالا نتيجة طريقة تفكيره فما دام يومه سعيد لا داعي له من النظر إلى مستقبله.

والنوع الثاني: هم النوع الذي يرى أن الحياة ليست في طلب سعادة اليوم والليلة ولكن السعادة الحقة هي أن تعمل بكل جد واجتهاد نحو غاية سامية تفني فيها بدنك وتدفع ثمنًا لها سعادة اليوم. ومن ميزات هذه العقلية أن صاحبها غالبًا مايكون صاحب إنجازات كبيرة ويكون ذا عزم وهمة سامية وهذه الصفات قد تكون كلها جميلة في ظاهرة ولكن هذا لا يعني أن طريقة التفكير هذه لا تخلو من العيوب. فصاحب هذه العقلية غالبًا مايكون غير مهتم بذاته وغير مبال بمن حوله لأن في نظره أن الهدف هو الشيء الوحيد الذي يستحق أن يصرف له النظر. وييصعب جدا على هذه العقلية الوصول لأهدافها لأنها بعيدة المدى وعسيرة التحقيق، وترى صاحب هذه العقلية إن تعثر في طريقه ولم يصل لهدفه يصاب حتميا بالإكتئاب لأنه فقد في نظره الطريق الوحيد نحو السعادة.

وبين نظري لهاتين الطريقتين أصبت بالإحباط. هل حقا علي أن أضحي بشيء من أجل الآخر؟ هل يجب علي أن أعيش سعيد اليوم وتعيس الغد أم تعيس اليوم وسعيد الغد؟ أليس هناك طريقة ثالثة أو نظرة أخرى لهذه الأمور؟ ربما المشكلة ليست في الطريقتين بل المشكلة في معرفة المفقود؟

أسئلة كثيرة تساءلتها بيني وبين نفسي وظلت تحيرني حينًا من الزمان حتى شاء الله أن يهديني إلى الصواب. اكتشفت أن المشكلة أنني كنت أبحث عن شيء خاطئ وكان من المفترض أن أبحث عن ماهو ثمين حقا. نعم، ليست السعادة هي الماسة التي أبحث عنها هنا إنما ما أبحث عن هو شيء أسمى وأعلى من معنى السعادة البسيط. إن ما أبحث عنه هو: السكينة والطمأنينة...

قد يأتي في بال القارئ عند سماع كلمتي الطمأنينة والسكينة أنني أتكلم هنا عن ركن الطمأنينة في الصلاة ولكن ما أبغيه هو المعنى الأشمل لهاتين الكلمتين. قبل أن أسهب في الحديث عنهما سأنقل لكم بعضا من التعريفات التي وضعها السلف حول هذين المصطلحين.

قال ابن القيِّم: (هي الطُّمَأنِينة والوَقَار والسُّكون، الذي ينزِّله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدَّة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوَّة اليقين والثَّبات) 
وقال الجرجانى: (السَّكِينَة: ما يجده القلب من الطُّمَأنِينة عند تنزُّل الغيب، وهي نور في القلب يَسْكُن إلى شاهده ويطمئن)

 

 

 

 

 

ووصفها النابلسي في قوله : : أنَّ السكينةَ نورٌ وقوةٌ وروح، فالنور يكشف الله لكَ بالسكينة, التي هي في بعض أجزائها نور، يكشف لكَ عن دلائل الإيمان وحقائق اليقين، يجعلكَ تُميزُ بينَ الحق والباطل، وبينَ الهدى والضلال، وبينَ الغيِّ والرشاد، وبينَ الشكِ واليقين، يعني صاحبُ السكينة صاحبُ رؤيا، صاحبُ السكينة صاحبُ نور.

 

قال تعالى: Ra bracket.png الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ Aya-28.png La bracket.png


 بعد بحثي اكتشفت أن السكينة والطمــأنينة (الكلمتان تحملان نفس المعنى ) هي فعلا النظرة الوحيدة الشاملة التي تضمن للإنسان انشراح القلب والصدر في كل حين وهي بسموها فوق الأهداف والزمان ليست مرتبطة سوى بطريق الله وحبه فمتى ما لازمت طريق الله لازمتك ومتى ماحدت عنه  فارقتك. والشعور بالسكينة والطمأنينة شعور أجمل بكثير من السعادة فهي شعور دائم واستقرار نفسي وسمو روحي، كل ذلك في آن واحد! والشعور بالسكينة والطمأنينة يجمع إيجابيات طريقتي التفكير السابقتين فهو يضمن لك السعادة في كل حين ويعتبر مؤشر في طريقك نحو أهدافك أي متى ما لازمتك السكينة فاعلم أن طريقك صواب ومتى ما خالفتك فاعلم أن في طريقك إثم.

 

 

 وقد أبدع النابلسي في وصفه للسكينة عندما قال : "هذه المنزلة من منازل المواهب لا من منازل المكاسب .
 يعني المؤمن يعمل , والله سبحانه وتعالى يُكافئ , فالذي يأتي من الله , هذه منازل المواهب ، والذي يأتي من كسب العبد هذه منازل المكاسب .فالسكينةُ من منازل المواهب لا من منازل المكاسب .
 الاستقامة من المكاسب ، تحرّي الحلال من المكاسب ، مجاهدة النفس والهوى من المكاسب .
 السكينةُ من المواهب ، فأنتَ تتحرك نحو الله عزّ وجل , والله يتجلى على قلبك ، أنتَ تستقيم والله يُكرّم , التكريم مواهب والاستقامة مكاسب ، أنتَ تغضُ بصركَ عن محارم الله , والله يوهبكَ حلاوةً في قلبكَ إلى يوم تلقاه , هذه الحلاوة من المواهب وهذا الغضُ من المكاسب ، المكاسب شيء والمواهب شيءٌ  آخر , بل إنَّ المواهبَ من ثمرات المكاسب"


ويفهم من قوله أن السكينة ليس لها طريق واضح لتنالها إنما هي هدية من الله يعطيك إياها متى ماشاء ولكن هذا لايعني أنه لا يمكن العمل من أجل هذه الهدية فالله سبحانه عادل ورحمن ورحيم ومتى ماوجد العبد يتجه صوبه أفاض عليه من رحماته ونعمه - سبحانك ربي - 


قال الرحمن في حديثه القدسي: 

إذا تقرَّب عبدي منِّي شبرًا تقرَّبْتُ منه ذراعًا وإذا تقرَّبمنِّي ذراعًا تقرَّبْتُ منه باعًا وإذا أتاني مشيًا أتَيْتُه هرولةً وإنْ هروَلَ سعَيْتُ إليه واللهُ أوسعُ بالمغفرةِ
الراوي: أبو هريرة المحدث: ابن حبان المصدر: صحيح ابن حبان - الصفحة أو الرقم: 376
خلاصة حكم المحدث: أخرجه في صحيحه

 


في السكينة والطمأنينة نجد ضالتنا. نجد مايجعلنا مطمئني اليوم وناجحي الغد، نجد ما يجعلنا لله أقرب. تخونني الكلمات هنا ولو أردت أن أستمر في وصف السكينة لما انتهيت، فهي الجمال ذاته ولكن أرجو من الله أن أكون قد أشعلت في أذهانكم الفضول للبحث أكثر حول السكينة والطمأنينة والاستزادة عنهما قدر المستطاع.


أسأل الله أن يملأ حياتنا طمأنينة وسكينة، قولوا آمين.


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أضف تعليقاً

Loading